(المدارة)
الأحقاف نت | تقرير خاص
يُحيي أبناء أرخبيل سقطرى ومعهم الجنوبيّون هذا الشهر الذكرى الخامسة لمعركة حاسمة غيّرت وجه الجزيرة للأبد: معركة 19 يونيو 2020 التي أنهت وجود الميليشيات الإخوانيّة وأعادت القرار السقطري إلى أهله. على امتداد ساحات حديبو وقلنسية تَصدح الأهازيج الشعبية وتتزيّن الشوارع بالأعلام الجنوبية، في تذكيرٍ جمعيّ بأن ذلك اليوم لم يكن مجرّد حدث عسكريٍّ عابر، بل لحظة تأسيس لمسار جديد عنوانه «الأمن أولاً فالتنمية».
قبل التحرير، تحوّلت الجزيرة ذات الموقع الإستراتيجي في المحيط الهندي إلى مسرحٍ مفتوح لخطوط تهريب السلاح والبشر والموارد النادرة. عملت الجماعة الإخوانيّة، التي افتقدت لأيّ مشروع دولة، على تفكيك النسيج الاجتماعي المحلي واستتباع مؤسسات الدولة لمراكز قرارٍ خارج الأرخبيل، مستندة إلى شبكات تمويل مشبوهة وعناصر مسلّحة نُقلت من محافظاتٍ مجاورة. ومع انكشاف المخطط، تشكّلت جبهةٌ أهليّة – أمنية عابرة للقبائل والمناطق، أعلنت رفضها تحويل الجزيرة إلى «نقطة عبور» على خريطة الفوضى التي شهدتها مناطق أخرى.
انطلقت شرارة المواجهة فجراً في 19 يونيو، عندما أحكمت وحدات من القوات المسلّحة الجنوبيّة، مدعومة بكتل جماهيرية، السيطرة على المطار فالميناء فالمقار الإدارية خلال أقل من 24 ساعة. مثّلت السرعة والدقّة عاملاً حاسماً، إذ حاصرت القواتُ مراكز القيادة الإخوانيّة وشُلَّت قدراتُها اللوجستية قبل أن تتوسّع رقعة الاشتباكات. بالموازاة، لعبت لجانُ الصلح المشكّلة من وجهاء سقطرى دوراً محورياً في تجنيب الأحياء السكنية الدمار، فاستُعيدت المؤسسات العامة شبه سليمة، ما مكّن السلطات الوليدة من البدء الفوريّ في عملية تطبيع الأوضاع.
خلال العام الأول بعد التحرير رُكِّز على ملف الأمن: نزع السلاح غير المرخَّص، إعادة توزيع النقاط الأمنية على الطرق الساحلية والجبلية، وتشديد الرقابة على الممرات البحرية التي كانت تستخدمها شبكات التهريب. النتائج بدت واضحة؛ فطبقاً لبيانات خفر السواحل، تراجع عدد عمليات التسلل المسجّلة بنسبة تُقدَّر بما يفوق 70 ٪ مقارنة بمتوسط 2017-2019، وهو تحوّلٌ حاسم مهّد لبقية برامج إعادة البناء.
الدعم الإماراتي جاء ليلتقط اللحظة. فمنذ 2015 وحتى منتصف 2021 تجاوز إجمالي ما قُدّم لسقطرى 110 ملايين دولار غطّى قطاعات الطاقة والمياه والصحة والتعليم والنقل، وفق أرقام رسمية إماراتية . صندوق أبوظبي للتنمية والهلال الأحمر ومؤسسة خليفة كانوا في واجهة المشهد، واضعين «خريطة أولويات» تتناسب مع خصوصية الجزيرة البيئية وكثافتها السكانية المحدودة.
في القطاع الصحي، أعيد تأهيل مستشفى الشيخ خليفة وتوسعته ليصبح مرجعيةً للأرخبيل وتمّ رفع قدرته الاستيعابية إلى 42 سريراً بينها عناية مركّزة وغسيل كلى. والأهم أنّ المستشفى نقل حتى نهاية 2024 نحو 2035مريضاً للعلاج المتخصّص في دولة الإمارات، بما في ذلك 190 حالة في العام الماضي وحده، واستضاف 50 طبيباً زائراً لدعم حملات جراحة موسمية ومخيمات طبية مجانية .
على صعيد الطاقة والمياه، شيّدت الإمارات أربع محطات كهرباء تقليدية ومحطتين تعملان بالطاقة الشمسية (قدرة 2.2 ميغاواط في حديبو و800 كيلوواط في قلنسية)، واستُحدثت شبكة توزيع غطّت أكثر من 30 موقعاً ريفياً. كما حُفِرت 48 بئراً ارتوازياً، وزُوّدت القرى النائية بمضخات تعمل بالطاقة الشمسية، فيما جرى استبدال الشبكة الهوائيّة بأخرى أرضية أكثر أماناً واستدامة .
مطار سقطرى بدوره شهد عملية تحديث شاملة شملت إنارة المدرج وبناء مبنيَيْن جديدَيْن للمسافرين وصالتي كبار الزوار، إضافة إلى توسعة الميناء برصيفٍ بحري جديد بطول 90 متراً وغاطس 4.5 متر يُمكّن السفن المتوسطة من الرسوّ الآمن. تلك التحسينات اختصرت زمن وصول الإمدادات وفتحت الباب أمام تحريك عجلة السياحة البيئية.
انعكست مؤشرات الاستقرار سريعاً على حركة الزوار: فبحسب مكتب السياحة بالمحافظة، استقبلت سقطرى نحو 4650 سائحاً خلال 2024 مقارنة بأقل من ألف قبل التحرير، مع توقع نمو مضاعف خلال موسم 2025 بفضل خطوط الطيران الدورية القادمة من أبوظبي وصلالة . ويُراهن المسؤولون المحليون على أن بلوغ عتبة عشرة آلاف سائح سنوياً سيخلق ما لا يقل عن 2000 فرصة عمل مباشرة في الإرشاد والخدمات الفندقية والنقل البحري.
إدارياً، جرى إرساء نموذج «المجلس المحلي المشارك» حيث يملك ممثلو المجتمع المدني نسبة 40 ٪ من مقاعد لجنة التخطيط والموازنة في ديوان المحافظة، في محاولة لضمان توزيع عادل للعوائد ودمج القرى النائية في خارطة المشاريع. وللمرّة الأولى اعتمدت المحافظة ميزانية تنموية معلَنة لباب الاستثمار الخاص تُقدَّر بخمسة ملايين دولار، ستخصَّص لإنشاء منتجعات صغيرة متوافقة مع معايير الحفاظ على المحمية البيئية.
مراقبون يؤكدون أنّ الإفلات من قبضة الميليشيات لم يكن إنجازاً عابراً بقدر ما هو «تحصين للهوية»، إذ حرم مشروعَهُم من بوابة بحرية استراتيجية كانت ستُستغلّ للتهريب وتدريب جماعات متطرفة، الأمر الذي كان سيُدخل الجزيرة في دوامة نزاعات تتعارض مع وضعها الفريد كمحمية طبيعية مصنّفة من اليونسكو. وفي المقابل، مكّن التحريرُ السلطات المحليّة من إعادة إدماج سقطرى في خارطة الاقتصاد الواعد للجنوب، لا سيما السياحة المستدامة وصيد الأسماك ذي القيمة المضافة
العالية.
اليوم تبدو سقطرى أكثر ثقةً وهي تفتح ذراعيها للعالم كوجهةٍ بيئية تحتفي بتنوّعها الفريد وتقدّم نموذجاً للتعافي في زمن قياسي. ومع تواصل مشاريع البنية التحتية وتعاظم دور القطاع الخاص المحلي، تُراهن الجزيرة على أن تتحوّل في غضون عقد إلى مختبر تنمية خضراء يمزج بين اقتصاد السياحة وخدمات اللوجستيات البحريّة، بينما يحتفظ سكّانها بعمقهم الثقافي وتراثهم اللغوي والحضاري. في ذكرى التحرير، يختصر أحد شيوخ الجزيرة المشهد بقوله: «بين الأمس واليوم مسافةُ وطنٍ كامل؛ كسبنا حريتنا فلم نخسر أنفسنا، بل وجدنا الطريق إلى المستقبل».

نوفمبر 28, 2025
نوفمبر 28, 2025
نوفمبر 27, 2025
نوفمبر 27, 2025
نوفمبر 27, 2025
نوفمبر 24, 2025
نوفمبر 21, 2025
نوفمبر 20, 2025
نوفمبر 19, 2025
نوفمبر 19, 2025
نوفمبر 19, 2025
نوفمبر 16, 2025
نوفمبر 16, 2025