
المدارة
الأربعاء 3 سبتمبر 2025م
شهدت أسواق الصرافة اليمنية خلال اليومين الماضيين تحولات دراماتيكية في قيمة الريال اليمني أمام العملات الأجنبية، حيث قفزت العملة الوطنية من مستويات الانهيار المتسارع إلى تحسن مفاجئ وغير مبرر. هذا الاضطراب أربك الأسواق بشكل عام، وأثار تساؤلات واسعة بين المواطنين والتجار والمحللين الاقتصاديين على حد سواء. ففي الوقت الذي كان فيه الشارع قد اعتاد على الانهيار المتدرج للعملة المحلية، فوجئ الجميع بتغيير المسار إلى اتجاه معاكس لم تتوافر له أي مقدمات اقتصادية أو مالية معروفة. ومن الملفت أن هذا التحسن السريع لم ينعكس بشكل إيجابي على أسعار السلع والخدمات الأساسية، التي واصلت ارتفاعها كما لو أن شيئًا لم يتغير، مما عمّق من شعور الناس بأن ما يحدث في السوق النقدية يظل مجرد لعبة مضاربة لا علاقة لها بتحسين المستوى المعيشي.
غياب مبررات اقتصادية واضحة
وفق النظريات الاقتصادية المعروفة، فإن ارتفاع قيمة العملة المحلية يرتبط عادةً بعدة عوامل منها زيادة التدفقات النقدية الأجنبية، أو تحسن ميزان المدفوعات، أو نجاح البنك المركزي في استخدام أدوات السياسة النقدية مثل رفع أسعار الفائدة أو امتصاص السيولة. إلا أن جميع هذه العناصر غائبة عن المشهد اليمني. فالصادرات النفطية والغازية التي كانت تمثل العمود الفقري للنقد الأجنبي ما تزال متوقفة منذ أشهر، كما لم يتم الإعلان عن أي وديعة جديدة من الخارج أو منحة مالية يمكن أن تفسر هذه الطفرة. إضافة إلى ذلك، فإن تحويلات المغتربين، وهي شريان اقتصادي أساسي، لم تشهد زيادة استثنائية في الفترة الأخيرة. حتى على مستوى الموازنة العامة، فإن الحكومة تعاني من عجز واضح، بدليل تأخرها في دفع رواتب موظفي الدولة والاعتماد على البنوك المحلية لتقديم الرواتب بشكل مسبق عبر قيود محاسبية دون وجود سيولة نقدية حقيقية. هذه المعطيات تجعل من الصعب تفسير ما حدث عبر أدوات الاقتصاد التقليدي، الأمر الذي دفع خبراء إلى وصف المشهد بأنه “خارج الحسابات المنطقية”.
تقلبات في السوق وتداعيات مباشرة
بحسب ما رصدته الأحقاف نت، فقد سجل الريال اليمني يوم الأحد 31 أغسطس أسعارًا متباينة بشكل غير مألوف، حيث تراوح سعر الريال السعودي بين 270 و330 ريالًا يمنيًا، مقارنة بسعر مستقر خلال الأسابيع الماضية بلغ 425 – 428 ريالًا. هذا الانخفاض المفاجئ في سعر العملات الأجنبية دفع المواطنين إلى التزاحم أمام محلات الصرافة لبيع ما بحوزتهم من دولارات وريالات سعودية خشية تعرضهم لخسائر أكبر. غير أن المشهد لم يدم طويلًا، إذ عاد الريال للانخفاض مجددًا مساء اليوم نفسه، مسجلاً ما بين 330 و380 ريالًا مقابل الريال السعودي، ما عمّق حالة الارتباك وعدم اليقين. والملاحظ أن هذه القفزات المفاجئة لم تُترجم إلى انخفاض في أسعار المواد الغذائية أو السلع الاستهلاكية في السوق، حيث بقيت الأسعار عند مستوياتها المرتفعة السابقة. وبذلك أصبح المواطن أمام معادلة صعبة: عملة ترتفع قيمتها على الورق، وسلع وخدمات لا تزال في مسار صعودي، مما عمّق الأزمة بدل أن يخفف منها.
واقع معيشي صعب وتراجع في التحويلات
يعيش المواطن اليمني اليوم وضعًا اقتصاديًا خانقًا، إذ بالكاد تغطي الرواتب الحكومية – في حال صرفت بانتظام – أبسط متطلبات الحياة اليومية من غذاء وسكن ونقل. ومع استمرار الغلاء وتذبذب أسعار الصرف، أصبح التكافل الاجتماعي والتحويلات المالية من المغتربين في الخارج عامل إنقاذ رئيسي للأسر. لكن هذا الدور مهدد بالتراجع في حال استمرت حالة الاضطراب النقدي، حيث يخشى كثير من المغتربين أن تتعرض تحويلاتهم لخسائر في القيمة عند وصولها بسبب تقلبات سعر الصرف. إضافة إلى ذلك، فإن الأزمات السياسية والعسكرية المتواصلة تزيد من صعوبة التنبؤ بمستقبل السوق، وهو ما ينعكس على قرارات الأسر والمستثمرين على حد سواء. ورغم أن المساعدات الموسمية التي يرسلها المغتربون ما تزال تسهم في التخفيف من المعاناة، إلا أن حجمها لا يكفي لمعادلة انهيار القوة الشرائية للريال. هذا المشهد يهدد بتحول الأزمة النقدية إلى أزمة اجتماعية أعمق تطال الأمن الغذائي ومستوى الاستقرار المعيشي للأسر في مختلف المناطق.
غياب دور فاعل للبنك المركزي
حتى اللحظة، لم يصدر عن البنك المركزي اليمني أي بيان رسمي يوضح خلفية ما حدث أو يقدم تفسيرات تطمئن السوق. هذا الصمت ترك فراغًا إعلاميًا استغلته جمعية الصرافين لتقديم نفسها على أنها صاحبة الفضل فيما جرى، وهو أمر أثار انتقادات واسعة من قبل خبراء الاقتصاد الذين أكدوا أن الصرافين ليسوا أصحاب القرار بل متأثرون بما يحدث. غياب الشفافية من قبل البنك المركزي يعزز مناخ الشائعات، ويترك المواطن والقطاع الخاص في مواجهة حالة من الغموض. ويشير خبراء إلى أن أحد الإجراءات الإيجابية التي قام بها البنك هو وقف التمويل بالعجز والاعتماد فقط على السيولة النقدية المتداولة في السوق، لكن هذا وحده لا يكفي لتفسير التغيرات الحادة في سعر الصرف. ما تحتاجه السوق اليوم هو خطاب رسمي واضح يحدد الخطوات القادمة ويعيد الثقة بالسياسة النقدية، لا سيما أن الثقة هي العامل الأهم في استقرار العملة.
ترابط اقتصادي معقد مع مناطق الحوثيين
من الجوانب التي قلما يتم الحديث عنها، أن المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة الشرعية ما تزال تعتمد بشكل شبه كامل على مناطق الحوثيين لتوفير الخضار والفواكه والقات بشكل يومي. هذا الترابط الاقتصادي يعكس هشاشة الوضع، إذ يضمن للحوثيين تدفقًا مستمرًا للعملة الأجنبية عبر عمليات الاستيراد الداخلية، في حين يترك الحكومة في موقف ضعف لا يمكنها من التحكم بمصادر النقد. ويشير خبراء إلى أن استمرار هذا النمط يجعل أي تحسن مؤقت في قيمة الريال هشًا ومعرضًا للانتكاسة في أي لحظة، طالما أن الأساسيات الاقتصادية لم تتغير. كما أن هذه الحالة تضعف قدرة الحكومة على وضع سياسات اقتصادية مستقلة، وتبقيها رهينة لتقلبات السوق التي يديرها واقع الحرب والانقسام السياسي.
مخاطر مستقبلية وحاجة إلى إصلاحات
التقلبات الحادة في سعر الصرف تحمل في طياتها مخاطر كبيرة على مستقبل الاقتصاد اليمني. فالمواطن لم يلمس أي فوائد ملموسة من التحسن المؤقت للريال، فيما بقيت أسعار السلع عند مستويات مرتفعة، الأمر الذي يضاعف الضغوط المعيشية. أما القطاع الخاص فقد وجد نفسه أمام صدمة جديدة بعد أن كان بالكاد يتعافى من الصدمات السابقة، وهو ما يهدد بتراجع الاستثمارات وتجميد الأنشطة التجارية. ويرى اقتصاديون أن الخروج من هذه الدوامة يتطلب خطة إصلاح اقتصادي شاملة تتضمن إعادة تفعيل الصادرات النفطية، تحسين الإيرادات المحلية، واستقطاب الدعم الخارجي بشكل مدروس. الأهم من ذلك، استعادة ثقة السوق من خلال شفافية البنك المركزي وإجراءات حقيقية لضبط المضاربة بالعملة. من دون هذه الإصلاحات، ستبقى أي قفزة في قيمة الريال مجرد ظاهرة مؤقتة سرعان ما تتلاشى، تاركة المواطن في مواجهة أزمات متفاقمة.
اليمن بين الحاجة إلى نظرية اقتصادية جديدة
يذهب بعض المراقبين إلى أن ما جرى في سوق الصرف اليمني يستحق دراسة أكاديمية معمقة، لأنه لا يتطابق مع أي من النظريات الاقتصادية التقليدية. فالمعادلة التي شهدتها البلاد – انهيار متسارع يتبعه تعافٍ غير مبرر – قد تفرض على الباحثين التفكير في “نظرية يمنية خاصة” لتفسير هذه الظاهرة. لكن ما هو مؤكد أن استمرار هذه الحالة من التقلب سيجعل المواطن والقطاع الخاص أكبر الخاسرين، إذ يعيش الأول على أمل أن تنعكس التحولات النقدية على قدرته الشرائية، بينما يخشى الثاني من أن يؤدي الغموض إلى شلل في النشاط الاقتصادي. وبين هذا وذاك، يبقى المشهد اليمني مفتوحًا على كل الاحتمالات، بانتظار إصلاحات حقيقية تعيد الاقتصاد إلى مسار أكثر استقرارًا.
ديسمبر 8, 2025
ديسمبر 8, 2025
ديسمبر 8, 2025
ديسمبر 8, 2025
ديسمبر 8, 2025
ديسمبر 8, 2025
ديسمبر 8, 2025
ديسمبر 8, 2025
ديسمبر 8, 2025
ديسمبر 8, 2025
ديسمبر 8, 2025
ديسمبر 8, 2025
ديسمبر 8, 2025